✍ د.سعد عبدالله الجدعان – باحث أكاديمي كويتي:
المصدر – الوعي الإسلامي:
الجار حقه عظيم ولو كان كافرا فكيف إذا كان مسلما، وكيف إذا كان مسلما قريبا له رحم؟! قال العلماء إن الجيران ثلاثة، أي من حيث وجوب الصلة والبر بهم والإحسان إليهم: الأول هو الجار الكافر، وله حق واحد هو حق الجوار، وكل الأحاديث والآيات التي وردت في حق هذا الجار الكافر ووجوب الإحسان إليه واحتمال الأذى منه وكف الأذى عنه يدخل فيها أيضا الجار المسلم والجار القريب والبعيد، ومن تعرف ومن لا تعرف. قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} (النساء:36).
في هذه الآية الكريمة أمرنا الله تعالى بعبادته وحده لا شريك له، ونهى عن الشرك به، ثم بعدما أمر بعبادته والقيام بحقه أمر بالقيام بحقوق العباد الأقرب فالأقرب، فأمرنا بالإحسان إلى الوالدين، أيا كانت ديانتهما ولم يقصره على المسلمين فقط. وكذلك الحال بالنسبة إلى ذوي القربى، ويشمل ذلك جميع الأقارب، قربوا أم بعدوا، وأيضا باليتامى والمساكين الذين أسكنتهم الحاجة والفقر. وشملت الآية أيضا تأكيد الله تعالى على حق «الجار ذي القربى» الذي له حقان: حق الجوار وحق القرابة، و«الجار الجنب» الذي ليس له قرابة، مسلما كان أو كافرا، قريبا كان أم بعيدا، وكلما كان الجار أقرب بابا كان آكد حقا.
والثاني هو الجار المسلم، وله حقان، هما حق الجوار وحق الإسلام. أما الجار الثالث، فهو الجار المسلم ذو الرحم، وهذا الجار له ثلاثة حقوق: حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم. عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» أي سيجعله كأهله وعياله، يدخل في هذا المعنى المسلم والكافر فالحديث عام.
حقوق الجار
الحق الأول: وهو من أوجب الواجبات، أن تكف أذاك وشرك عنه، فعن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن. قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه»، أي لا يؤذي الجيران إلا رجل ضعيف الإيمان أو فاقد الإيمان والعياذ بالله.
الحق الثاني: احتمال الأذى من الجار، إذ يتعين على المسلم الصبر على أذى الجار ما وسعه ذلك واحتساب الأجر عند الله، ولا يمنع ذلك أن تناصحه وتذكره بالله وتخوفه من عاقبة أذى الجار وتبين له أنك متألم متأذ من أفعاله. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (الأحزاب:٥٨).
والآيات والأحاديث كثيرة في عاقبة الظلم والأذى، ومنها: عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» .
الحق الثالث: لا يقتصر على أن تكف الأذى عنه فقط وتحتمل الأذى منه، بل تحسن إليه وإن آذاك وأساء إليك وقطعك. عن عبدالله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا انقطعت رحمه وصلها» .
وكان لأبي حنيفة النعمان، الإمام المعروف، جار إسكافي يعمل في تصليح الأحذية طوال النهار، فإذا حل الليل جاء إلى البيت وشرب الخمر، وكان أبوحنيفة يسمع هذا الجار يردد شعرا كل ليلة وهو سكران يقول فيه:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغرِ
أي إنه يردد شعرا للأولين. ومرت الأيام وفي ليلة من الليالي افتقد أبوحنيفة صوت جاره؛ ما سمع له صوتا ولا حركة، وفي الصباح سأل عنه قال: أين فلان؟ قالوا: قبض عليه العسس، أي الشرطة، في الليل وأودعوه السجن. فركب أبو حنيفة بغلته وذهب إلى الأمير واستأذن ودخل عنده، فرحب به الأمير وقال له: سلني ما شئت. قال: أشفع لجاري. قال: وأي جار؟! قال: فلان بن فلان. فقال الأمير: هو لك، وعفونا عنه، وخذه معك. فأخذه أبوحنيفة ومشى معه إلى بيته. فقال له أبوحنيفة: هل أضعناك أيها الرجل؟ قال: لا والله. فتاب الرجل من يومه وانقطع عن شرب الخمر وكان من الصالحين.
عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة والمسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيء»
الحق الرابع: ستره وصيانة عرضه، وهذا الحق من آكد الحقوق، فبحكم الجوار قد يطلع الجار على بعض أمور جاره، فينبغي أن يوطن نفسه على ستر جاره مستحضرا أنه إن فعل ذلك ستره الله في الدنيا والآخرة، أما إن هتك ستره فقد عرض نفسه لجزاء من جنس عمله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت:46).
وقد كان العرب يفخرون بصيانتهم أعراض الجيران حتى في الجاهلية، يقول عنترة:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
وأما في الإسلام فيقول أحدهم:
ما ضـر جاري إذ أجاوره ألا يكون لبـيته ستر
أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر
الحق الخامس: رد السلام وإجابة الدعوة، وهذه وإن كانت من الحقوق العامة للمسلمين، إلا أنها تتأكد في حق الجيران لما لها من آثار طيبة في إشاعة روح الألفة والمودة. ولهذا جاء في الأثر قول القائل: «الجار قبل الدار». فإن الجوار أحيانا يكون أعظم من البيت نفسه. ومن حق الجار على جاره أيضا أن يكون له في الشدائد عونا وفي الرخاء أخا. وأن يفرح إذا رأى من أخيه ما يفرحه ويسره، ويأسى إذا رأى من جاره ما يحزنه ويؤذيه، ويشد بيده إذا أظلمت في وجهه الحياة، وينصحه ويذكره ويرشده إذا أخطأ أو ضل الطريق، وينصره إذا كان مظلوما، ويردعه عن الظلم إذا كان ظالما، ويقويه إذا كان عاجزا، ويغنيه إن كان فقيرا، ويجمع شمله إن شتته الزمان، ويلم شمله إذا آتته صروف الدهر.
ثواب حسن الجوار
حسن الجوار يرفع العبد إلى أعلى الدرجات، ويجعلك تتبوأ أعلى المنازل لا بصيام ولا بقيام وإنما بحسن الجوار. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به»، فينبغي على المسلم أن يعلم أن من صنائع المعروف إكرام الجار.
فكن أخي الحبيب من أهل المعروف مع أقرب الناس إليك وهم جيرانك. ومن سعادة المرء أن يعيش مع جيران أفاضل، ومن متع الحياة الدنيا أن تطمئن إلى أن الذي إلى جانبك، والذي فوقك، والذي تحتك، يحبك وتحبه، يحفظ حرمتك، وتحفظ حرمته، يتفقد أهلك، وتتفقد أهله في غيبته، نحن نتذوق القيم الإسلامية نظريا، ولكن والله لو عشناها لشعرنا بسعادة لا توصف.. على الوصف نسعد بسماعها، فكيف إذا عشناها؟ كيف إذا عشنا هذه القيم؟ وكيف إذا كنا كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم، كيف إذا كنا كما وجهنا النبي عليه الصلاة والسلام؟.
تحذير نبوي
وقد جاءت في السنة تحذيرات شديدة من الإساءة إلى الجار وعاقبتها. فقد يكون المسلم معروفا باستغراقه في عبادة الله، ويمنعه من دخول الجنة ويدفعه إلى النار إيذاؤه لجاره، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها. قال صلى الله عليه وسلم: «هي في النار». قال: يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها وإنها تصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها بلسانها. قال: «هي في الجنة».
وقد يكون المسلم لا يؤدي من العبادة سوى الفرائض، لكنه لا يؤذي جيرانه، أي لا يقسو على جيرانه بل يرحمهم، فيدخل الجنة، وهكذا يكون إيذاء الجار سببا في دخول النار، والإحسان إلى الجار سببا في دخول الجنة. وفي الموقف فضيلة من فضائل الإحسان إلى الجار، وهي أن الجار إن عصى الله فيك، فينبغي أن تطيع الله فيه، قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34).