فاقتراح هذا الرسم الجديد، كان القشة التي قصمت ظهر البعير. والشعب اللبناني أحس أخيراً أنه كان كبعير للطبقة الحاكمة طوال ثلاثة عقود، لكن من دون حصوله على أي تقدمات اجتماعية واقتصادية، مقابل ما أعطاه لهم.

بالنسبة للبنانيين، طفح الكيل من استمرار السلطة الحاكمة في ملء جيوبها، عبر استنزاف جيوب المواطنين. احتكار للموارد، وللمناقصات، وللصفقات، ومن لا يُشارك أهل الحكم في أشغاله، تقف مصلحته.

موجة الضرائب والرسوم الجديدة، التي حاولت الحكومة تمريرها، كانت ضربة الكف الذي أيقظ اللبنانيين من سباتهم أخيراً فانتفضوا جميعاً. يريدون رحيل جميع رموز الفساد في السلطة ومحاكمتهم واستعادة الأموال المنهوبة.

فليسددوا ديون لبنان مما سرقوه وليس من جيوبناهذا لسان حال المتظاهرين، الذين يُطالب بعضهم الجيش اللبناني بالتدخل وتشكيل حكومة عسكرية مُصغّرة. بلد الديمقراطية الأعرق في الوطن العربي، بات لا يثق إلا بمؤسسة الجيش، التي ظلت الوحيدة التي تمثل المجتمع كله بحق.

لم يعد يحتمل الشعب الفقير سياسة نهب جيوبه وهدر المال العام، كلما احتاج المسؤولون لتسديد دين أو دفع ثمن سفراتهم وهداياهم وحفلاتهم على حساب الشعب.

فجأة ودونما سابق إنذار، وفي تحرّك عفوي، قطع اللبنانيون كل الطرقات، بالإطارات المحترقة والحجارة ومستوعبات النفايات، وكل ما يمكن استخدامه من أجل شل حركة المرور.

تعطلت حركة السير في المدن والقرى والشرايين الرئيسية التي تُغذي العاصمة بيروت.

في وطن الـ4 ملايين مواطن ومليونا لاجئ سوري وفلسطيني وعراقي وغيرهم، و90 مليار دولار هي دين عام، يتسارع في ظل غياب سياسات اقتصادية حقيقية وإدارة للموارد بشكل وطنّي وفعّال، بات اللبناني مقتنعاً بأمر واحديجب رحيل الطبقة السياسية الحاكمة منذ 1990.

وعود هوائية

باقون إلى أن ترحل الطبقة الفاسدة كلهايلي عم تنهبنا من 30 سنةقالها عشريني من ساحة الشهداء، التي تحولت إلى ساحة معارك وكر وفر بين قوى الأمن والجيش، وبين بعض الغوغائيين ممن اندسوا بين المتظاهرين، فحرقوا وخربوا الممتلكات العامة والخاصة. طالت هذه الموجة بعض المتظاهرين السلميين أيضا.

المتظاهرون تبرأوا من المندسين، واتهموا الأحزاب بإرسال زبانيتهم لتحقيق هدفين: تشويه سُمعة الانتفاضة عبر تخريب الممتلكات، والتهويل لثني المواطنين عن التظاهر.

مرت 24 ساعة من الصمت المطبق من السلطة، ثم نطق رؤساء أقوى الأحزاب الحاكمة، وليتهم لم يتكلموا.

جل كلماتهم كانت عن تضحياتهم. عن مقترحاتهم للإصلاح التي لم تمر بسبب غيرهم. عن وجعهم من الفساد، الذين هم أساسه.

رئيس الوزراء سعد الحريري، الذي يرأس تيار المستقبل، توجه مساء الجمعة للشعب من السراي الحكومي، حيث حكم والده طوال 10 سنوات.

أمهل شركاءه في الحكم 72 ساعة، تنتهي الاثنين للتقدم بأفكار للإصلاح، وكأن الحمل ليس حمله أيضا.

كيف تُصلح في 72 ساعة ما أفسدته الطبقة السياسية في عقود؟ هذا هو سؤال الـ90 مليار دولار.

رسم الحريري لنفسه صورة الضحية، التي عملت وتعمل بجد وجهد، والتي قدمت وضحت، ووضع اللوم على الآخرين من دون تسميتهم. وكأنه لم يكن يريد المنصب ولا استفاد منه. ولولا الاستفادة لما عاد.

كلامه لم يؤثر في اللبنانيين، فهم يعرفون الحقيقة. يعرفون سوء الإدارة والتقصير في اتخاذ القرارات.

ربما لا يريد الحريري الاعتراف بذلك، أو لا يريد أن يعترف لنفسه، بأن الصفقات والهدر واستغلال السلطة عنده وعند تياره وعند المحسوبين عليه، تحدث و”على عينك يا تاجر”.

لكن اللبنانيين يعرفون ويعرفون. صمتهم لسنين وعقود كان خطيئة يجري تصحيحها الآن بانتفاضتهم.

سبقت خطاب الحريري، كلمة لوزير الخارجية جبران باسيل، رئيس التيار الوطني الحر، مباشرة من القصر الجمهوري، حيث يتربع والد زوجته الذي أسس التيار، رئيسا للبلاد.

أعاد باسيل إسماع الشعب وعوداً في ورقة الإصلاح التي تقدّم بها نواب حزبه ولم يتبناها وزراء بقية الأحزاب في الحكومة، وهو يعلم أنهم لن يتبنوها طالما لن يحصلوا على حصص في تلك المشاريع. وعد بكهرباء 24/24 عام 2020، أي بعد بضعة أشهر عِلماً أنه لا بنية تحتية جاهزة لإنفاذ هذا الوعد. كما يعرف أن لا مشروع يمر من دون توافق الجميع داخل الحكومة، ولا توافق من دون محاصصة، فتبقى المشاريع في الدُرج إلى أن يفرجها الله أو يتراضى الأطراف على الحصص.

أبسط مثال على هذه المناكفات السياسية، منصة إعادة التغويز وتخزين الغاز العائمة، التي كان من المفترض أن تُوضع في منطقة البدّاوي لتغذية معامل الكهرباء بالغاز. 

وبحسب معلومات مؤكدة، عرقل وزير حركة أمل المشروع، إلى أن تمت الموافقة على إنشاء منصة ثانية في منطقة الزهراني جنوباً، وهي منطقة تابعة لسيطرة أمل سياسياً. بات لدينا مشروع لبناء منصتين عائمتين. وما كان من التيار الوطني الحر إلا أن طالب بمنصة ثالثة في منطقة مسيحية وهي سلعاتا، فباتت تكلفة المشروع ثلاث مرات أكثر مما كان مخططاً له. 

صحيح أنه بالإمكان الاستفادة من المنصات الثلاث مستقبلاً، إلا أن لبنان لا يزال قادراً على توفير المليارات في حال بنى منصة واحدة، تخدم معامل الكهرباء كلها.

الحريري وباسيل صوّرا الخطأ على أنه من الشركاء في الحكم. لا أحد يريد الاعتراف بوجود فساد في إدارته، لأنهم ضحايا.

ويوم السبت تنحنح أمين عام حزب الله حسن نصرالله في كرسيه اللاحكومي وتكلم. وهو، وإن لم يملك منصباً في الدولة، إلا أن لديه وزراء ونواباً وسلاحا يعطونه أيضا مركزا في الحكم.

صمت اللبنانيون بانتظار خطاب ناري يدعم مطالبهم المحقة، فكانت الطامة الكبرى: الحزب الذي دافع عن الثورة في اليمن، والبحرين، وغيرهما من الدول، لم يدعم ثورة شعبه المحقة.

حزب الله اعترف بوجود مشكلة، لكنه طالب بإبقاء الحكومة الحاليةبفاسديهاكما يسميهم المتظاهرون، وعدم المساس بالحكم.

كما دعا لإصلاحات بالمقابل، وهدد الشعب بالفوضى والإفلاس وسقوط الليرة، في حال استمر الشعب بالمطالبة بتغيير كل الطبقة الحاكمة. 

حاول نصر الله تبرير الابقاء على الحكومة الحالية، لكن بمنهجية جديدة، لأنها تُعطي حزبه غطاءً سياسياً. وسخر من قدرة أي حكومة تكنوقراط في حال تشكلت، قائلاً إنها لن تستطيع الاستمرار أكثر من اسبوعين.

على ما يبدو، يريد حزب الله معالجة الأزمة بالأفراد أنفسهم الذين تسببوا فيها، وهو ما نسف آمال المتظاهرين الذين انتفضوا الجمعة ضد حزب الله أيضا، فهاجموا مكاتب لنوابه ومسؤوليه.

حزب الله يعلم أن كارت الشعب بدأ يفلت من يده، وبدلاً من التصرف بذكاء كما عوّد الجميع، تصرّف وكأن الشعب مستعد للتضحية من أجل نصر الله.

ألم يقرأ حزب الله الوضع بشكل صحيح، أم أنه لا يهتم إن اتجه البلد للفوضى، حيث البقاء عندها سيكون للأقوى وللمسلّح وللقادر على تشكيل كانتونه الخاص؟ 

في الحالتين حزب الله رابح من بقاء الطبقة الحاكمة التي تحمي سلاحه سياسياً، فيما يسكت هو عن فسادها (ومن شارك الفاسد فهو فاسد)… أو استقالتها ومحاسبتها لتدب الفوضى فيسيطر الأقوى على الأرض.

في المقابل، رئيس مجلس النواب منذ 27 عاما نبيه بري، الذي يرأس حركة أمل التزم الصمت، ما خلا تسريبات على لسان المقربين منه. وأيضا، كنظرائه، قرأ الوضع بشكل مغلوط، فصدر بيان عن حركة أمل تتبنى فيه مطالب الناس وتدعمها، فيما الشعب ينتفض ضد الفساد ويسميها ضمن جوقة الفاسدين.

وقبلهم جميعا تحدث وليد جنبلاط، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي القادم من بيت أورثه العباءة السياسية والحكومية والنيابية، والذي أورث ابنه النيابة والحزب السياسي. قال جنبلاط إنه أكثر الموجوعين من الفساد هو والحريري وبرّي، فيما المتظاهرون يسمونه هو ومن سماهم، الفاسدين. هو أيضا سقط في امتحان فهم الشعب. 

وأمس قام مسلحو حزبه بالتعرض للمتظاهرين في منطقة عاليه، تماماً كما فعل مسلحو حركة أمل في مناطق صور والنبطية.

وحده رئيس الجمهورية هو من التقى ممثلين من وعن المتظاهرين الذين تجمهروا عند مداخل القصر الجمهوري، لكنه أيضاً كان مُقصّراً في مخاطبة الشعب وكأنهم دونه. فهو لم يخرج ليتضامن معهم، مع أنه كان أول من رفع راية محاربة الفساد قبل رجوعه من المنفى الباريسي عام 2005.

هل تستمر موجة الشجاعة؟

في نقاش مع محلل سياسي مخضرم، سألني ما الذي تغيّر، قلت له إنّ شيعة لبنان كسروا حاجز الخوف فيما مسيحيوه ودروزه، رغم مطالبتهم بإسقاط الفساد ورموزه، لا يزالون بمعظمهم منقسمين بينالكل فاسد إلا زعيمناوبينالخوف من غضب الزعيم وفقدان لقمة العيش“. فإسقاط رموز الفساد عندهم، يرتكز على إسقاط الجميع إلا زعيمهم. إنّها الشيزوفرانيا السياسية التي تؤخر تحقيق المطالب أيضا، لأن زعيم كل مجموعة سيطمئن إلى وجود من سيدافع عنه وعن أخطائه.

بات شيعة لبنان اليوم مصدرا لثورة حقيقية مشرفة، بعدما كسروا حاجز الخوف من الثنائية الشيعية الحزبية، التي كانت تمسك بهم من يدهم التي توجعهم، وهي لقمة العيش. اليوم حتى لقمة العيش باتت مهددة، فنزلوا إلى الشارع يهتفون ضد بري، وضد حزب الله. 

لا سلاح الحزب بات يخيف المواطن، ولا سلاح التوظيف بات يخيفه.

لم نكن نحلم في لبنان بأن نصل إلى يوم يقف فيه المواطنون ليهتفوا أن زعيمهم وسلالتهحراميةأو يكسروا مكتباً لنائب في حزب أو تيار سياسي.

استُنفر مسلحون لردع المتظاهرين حتى بالرصاص الذين لم يتوقفوا. لم يعد الشعب يهتم، فالجوع كافر، وأخطر شخص هو الجائع الذي لا شيء لديه ليخسره.

الشعب جائع للقمة الخبز ولحبة الدواء وللكهرباء ولمياه الشفة غير الملوثة وللهواء غير المسرطن وللوظيفة بحد أدنى من الأجور ولأدنى مقومات العيش بكرامة في وطن بات يعيش من القِلّة.

لكن لو يعود الأمر لمن يمسكون بتلابيب السلطة بأسنانهم، فهم بالتأكيد لن يستقيلوا طواعية أبدا. وإن استقالوا فقد يعمدون لتخريب البلد، ليثبتوا وجهة نظر فقط. فمن يهدر المال العام ولا يهتم طوال سنوات، لن يهتم أيضا بخراب الوطن.

لبنان ينتفض، وربما يفهم المسؤولون الرسالة، ولو من وراء القضبان