ضالة الفكر المفقودة..
يَنصَبّ الفكر في سياق مُعين يجد في ساحاته إبداع عُصارة فكره التي يرشف من زهورها رحيق ضالته دون سواها من ساحات الفكر الكثيرة في الحياة، فتجده يجمع من تُربة بساتينها فواكهه التي يشتهيها عقله ويقطف من زهورها التي تأخذ ألوانها لوحات فكره ويستظل تحل ظلالها الوارفة التي يفترشها خياله، ومتى ما ناخت رحال فكره وردت من غدير الحرف سطوره التي يشتهيها ويستلذها جماح إبداعه.
إلا أن بعض الغايات التي يفتقدها في حياته وتتوق لها نفسه وتشتهيها روحه تبقى عائق له تُخرجه من رواق خط مساره الذي يُسابق الواقع فيه فتخلق له مساحات فارغة في مُحيط خياله الواسع، الأمر الذي يستدعيه لسد تلك الفراغات ليعيد بها مؤشر بوصلته للاتجاه الصحيح نحو خط مساره الذي يتوق له ويمضي فيه، وكلما زاد معدّل الانحراف زادت معه المساحة المفقودة عن اتجاهه الصحيح وينتج عن ذلك فقده لتركيزه فلا يستطيع حياكة خيوطه بالجودة التي يبتغيها وأحيانًا يجدها تداخلت بعضها البعض فلا تعطيه إنتاج ناجح بالحجم والشكل الذي يحتاجه ويبتغيه.
إذًا العوارض في الحياة كثيرة إذا ما أعددناها وحصرناها فلا تجد إنسان تخلو مساحات فكره من تَعدد وتَغيّر وتَقلّب في موازين ومعطيات الأمور لديه ومن حوله وحواليه في كل الاتجاهات، وهي هاجس تبقى في كل الأحوال تُؤرّق الفكر البشري وتُقسّمه لعدة مسارات نظير المُضي في مسار واحد يجد فيه نفسه.
إذًا فما هو الحل؟
الحل يبقى في مكامن سد فراغات ما يشغل النفس وتبقى تلك المسألة صعبة نسبيًا كون دَيدن الحياة يجري بها، ومتى تمكّن الإنسان من ذلك فقد أوجد في نفسه مساحة إيجابية يمضي من خلالها بهدوء باتجاه غاية مُعينة يجد فيها نفسه أكثر عن غيرها.
الحل الثاني هو أمر التخلّي بإقناع الفكر والجوارح عن بعض ما تتوق له النفس، وهذا الأمر نسبيته أصعب عن الأولى لكون النفس كما فسره عُلماء النفس بأن إقناعها عن التخلّي عن شيء ما أصعب من أمر امتلاكها له، لِذا فإن الأمر متروك هُنا لقوة صنع قرار النفس مع ذاتها من عدمه.
الحل الثالث وهو الأصعب عن ما سبق وهو تنازل النفس نهائيًا عن حقوقها مُقابل حق آخر تمضي فيه، الأمر الذي يصعب على النفس البشرية إقناعها بتنفيذه لأنها مسألة حقوق حياة ومعيشة وبها مكاسب شرعية يصعب التنازل عنها بسهولة.
أما الحل الرابع فقد أوجدته بعض الدول التي تعتمد على عنصر الفكر والعقل كعامل رئيس في بناء حضاراتها، فقد أوجدوا قانون يقضي بمنح الإنسان صاحب العقل المُفكّر والمُدبّر والمُنتج في مسار مُعيّن جميع ما يسد به فراغات نفسه مُقابل توجيه عقله لمسار مُعين ينتج من خلاله ما هم بحاجة إليه كي تبقى خطّة استدامة الإنتاج لديهم قائمة ومستمرة لسنوات طويلة المدى، الأمر الذي جعل من ذلك العقل مُبرمج أُحادي التفكير الإبداعي دون انحراف بوصلة فكره لسد فراغات أخرى هم أغلقوها عنه بتوفيرها له وقد نجحوا في ذلك نجاح باهر، إلا أن تطبيق ذلك رُبما لا تجد له تَبنّي نَص قانون في دول أُخرى أو ربما لن تجد لتلك العقليات حاجة أو نية لاستدامة العقل ودخوله ضمن برمجيّات وخطط ورؤى طويلة المدى لتلك الدول.
إذًا فالمسألة تبقى رهينة شَغل فراغ العقل لِمَا هو حاجة له ولا يُمكن أن تجد إنسان يصب كامل تفكيره في مسار واحد بينما خيارات التفكير التي تشغله مُتشعّبه وجميعها أمامه وبدون عَنوَنه لوجهتها، ولو استطاع فلن يُبدع بها وستبقى غير مُكتملة لأن الكمال لله وحده، وسيبقى يبحث طوال حياته في جميع الاتجاهات والمسارات عن ضالة فكره المفقودة.
الكاتب: محفوظ راشد الشبلي
@