حبيبي يا أبي، من تجارب أجدادك وآبائك تعلمت، ومن ثم قدمت من عصارة حياتك كل ما جربت واستفدت، على طبق من ذهب لنا، ولن تبخل بشيء علينا أبدا، بل أكرمتنا بحنانك وجمال روحك وعطائك بكل ما استطعت.
ولكن ليت هناك من اصبح بطيبك وكرمك وعظيم سجاياك من بعد وفاتك يا أبي!؟ أو تحلى بالقليل منها، أو وقف على أبوابك خجلا، مما علمته، وأعطيته، وأفرحته وضحيت من أجله! عسى إن بقى شيء وان كان قليلا من حناياك، يتغلغل فيما بيننا، وكالمطر يصبح سيله علينا لا ينضب، لكنه يمتد ويستمر.
فمن ذا الذي يستطيع أن ينسى خصلة واحدة نادرة ورائعة من خصالك!؟ ومن ذا الذي يجحد طيبك وعطاءك!؟ فليس لك شبيه يا أبي! بالرغم من أن كنا آملين بأن نسمع من بعد رحيلك، من يهمس هنا او هناك ويقول: من شابه أباه فما ظلم ! ذلك لأنك تحمل صفات، نادرا جدا أن نجد من يتصف بها في زمننا هذا لكنها وجدت بك، بخلاف الوقت يا أبي الذي اصبح يختلف اختلافا كليا، عن ذلك الوقت الذي كنت تحياه بوسطنا أنت! فلقد تغير كل شيء، ولم يبق بالمستقبل ما نرى فيه أنفسنا، أو نستبصر ما سيكون بمن بعدنا، فقد طغت الأنانية والمصالح الشخصية على الأغلب فيه، وكلنا ما همه إلا نفسه.
طغت إلى ان شتتت وضيعت، وقتلت تلك الرغبة الحقيقية الجميلة في الإيثار الذي كنت تحاول بقدر المستطاع زرعه بداخلنا، والذي دائما ما يحث صاحبه على الكرم والبذل والسخاء، مما تحبه النفوس، وكما قال المهلب: والمراد بقوله هذا هو الحض على المكارمة، المواساة، العطاء والإيثار على النفس، الذي مدح الله سبحانه به أصحاب نبيه، فقال: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) «الحشر: 9».
وذلك دليل على الأثرة التي كانوا يمتدحون بها والتقنع بالكفاية.
فقط ليصبح قلب كل منا ساطعا، مشعا، متلألئا كقلبك النقي يا أبي.
علمتنا منذ الصغر بأن لا شيء يدوم: لا منصب، ولا اسم، ولا شهرة، ولا صيت، ولا كرسي، ولا مال، ولكن وحده الذي يدوم هو الخير والإيثار الذي ننشره ونسعى لتوسيع نطاقه.
فتلك بصمتك الإيجابية التي مازالت باقية من بعد غيابك، علمتها من حولك، منحتها من ذاتك وصميم قلبك، بكلمة، بفعل، بموقف، ولكن القليل للأسف طبقها من بعدك! فنحن على يقين بأننا سنرحل ذات يوم، وقد لا يتذكرنا إلا من أحببناه بضمير حي ونظيف، وأعطيناه دونما تعال وتكلف، وكما يقال: قلوبنا هي محاورنا، ومشاعرنا هي الدروس التي تغلف ما نريد أن نقدم.
إلا أنني مازلت أراك يا أبي نموذجا لا مثيل له لا ينضب، ورمزا للعطاء لا يخرب، تحيطني بنظراتك وكل أحاسيسك، أينما كنت، واشعر بيدك والتي دائما ما تمتد حوالي، بحب وسعادة وحنو لا يوصف ولا يحصد.
فاللهم ارحمه واغفر له.
الأنباء