بقلم : يوسف عبدالرحمن
الحداء فن العرب الأقدم، وسنَّه جد الرسول صلى الله عليه وسلم مضر بن نزار، فماذا تعرف عنه؟
اجتمعنا حول نار الحطب أمام منزل أخينا (بوخالد – محمد المليفي).
في أمسية خميس.. طاب لنا السمر حول هذه النار وما حوت من «الكستناء» التي جلبها معه صاحبنا الحاتمي (أبوعيسى) وليدور حوار حول الطرب والمقام، فبادرني صاحبي قائلا:
تكلمت معك أخي الكريم في وقت سابق عن غناء «الحداء» وأهميته لقوافل الإبل في الصحراء، وكيف كان الحداة يترنمون بأبيات شعر جميلة تسليهم في طريقهم الطويل وتطرب لها الإبل حتى أنها تسرع في مشيها غير آبهة بالتعب ولا مزعجات الطريق.
كان الترنم بالشعر عند العرب دون الآلات الموسيقية – شيء مهم عندهم، فقد كانوا في ذلك الزمان يؤثرون سماع الشعر وهو يُلقى عليهم بترنيم خاص، ثم بدأت الموسيقى العربية تزدهر في مناطق ثلاث من العالم العربي هي سورية والعراق وجنوب الجزيرة العربية، وكانت أسواق العرب قديما ومنها سوق عكاظ ميادين رحبة يتبارى فيها المغنون بآلاتهم الموسيقية البدائية التي لا تتعدى الناي وبعض الآلات الوتيرة مثل العود والربابة وآلات الإيقاع المختلفة.
اشتهر كثير من المغنين في العصور الإسلامية المختلفة، ففي صدر الإسلام والعصر الأموي اشتهر «سائب خاثر» وهو واحد من أشهر المغنين في ذلك العصر، ويقال انه أول من غنى بصوت متقن، كما أن هناك «عزة الميلاء» وهي من اللائي يغنين في المدينة، وتعد أشهر مغنية عزفت على المعزفة وهي آلة وترية شبيهة بالقيثار، ثم أتى العصر العباسي وكان من أهم رواد الغناء في ذلك العصر منصور زلزل، وهو أول من اخترع عود الشبوط، ثم أتى زرياب ويعد من أشهر الموسيقيين في العصر العباسي.
كان المغني قديما يقوم بالغناء معتمدا على السليقة لأنه يقوم بالترنيم بالطريقة التي توافق هواه، فهو يعرف أن الكلمات الحزينة يجب أن يلقيها بطريقة تختلف عن الكلمات التي فيها سعادة وحبور، ومع التقدم وضعت قواعد للغناء سميت فيما بعد بالمقامات، وتماثل المقامات بحور الشعر عند الشعراء، وقد كان الشعراء مثلهم مثل المغنين يجيدون الشعر ويسيرون على قواعد الفطرة التي فطروا عليها، وجاء بعد ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي ووضع بحور الشعر، ثم وضعت بعد ذلك المقامات الموسيقية والدرجات الموسيقية وهي «دو، ري، فا، صول، لا، سي، دو»، وهي لاتينية الأصل.
وتجتمع المقامات الموسيقية في كلمة (صنع بسحر) وهي مجموعة الحروف الأولى من المقامات: (ص، ن،ع، ب، س، ح، ر) وهي: (صبا – نهاوند – عجم حربيات – سيكا – حجاز – رست)، وهناك أمثلة كثيرة لهذه المقامات في أغانينا التي نسمعها هذه الأيام، وسنوضح ذلك بأمثلة تالية:
– مقام الصبا: مقام الصبا فريد من نوعه من الناحية الموسيقية، فهو يعد ناقصا علميا، فمن المعروف أن كل سلم موسيقي لا بد أن ينتهي بالنوتة التي بدأ منها إلا مقام الصبا فقراره لا يمثل جوابه، والغريب في هذا المقام أنك أول ما تسمع الآلات الموسيقية يخيل لك أنها تبكي وأنها حزينة، ومن أمثلة الأغاني التي غنيت بهذا المقام أغنية «هو صحيح الهوا غلاب» التي غنتها أم كلثوم، وتقول كلماتها الأولى:
هو صحيح الهوى غلاب
معرفش أنا
والهجر قالوا مرار وعذاب
واليوم بسنة
جاني الهوى من غير مواعيد
وكل مادا حلاوته تزيد
محسبش يوم حياخدني بعيد
ومن غريب مقام الصبا المنولوج الذي تغنى به خالد النفيسي الذي يقول:
يا هل الشاظ والشمشاظ
والمقص والمقراظ
عطونا شاركم
شمشاركم مقصكم مقراظكم
– مقام نهاوند: هو أحد المقامات الشرقية، يتميز بطابعه الموسيقي الشجي، ويناسب هذا المقام جميع أشكال التأليف الموسيقي الحزينة والمرحة، ومن الأغاني التي غنيت على هذا المقام أغنية: بفكر في اللي ناسيني التي غناها محمد عبدالوهاب التي تقول كلماتها:
بفكر في اللي ناسيني
وبنسى اللي فاكرني
وبهرب من اللي شاريني
وأدور عاللي بايعني
وأدور ليه على جرحي وصاحب الجرح مش فاكر
وأقول يا عيني ليه تبكي مدام الليل ملوش آخر
وأغنية مفتون في هوى الغزلان التي غناها عدد من المطربين الكويتيين إضافة لفرقة التلفزيون التي تقول كلماتها:
مفتون في هوى الغزلان يا عبيد
مسكين طراد الهوى واكبر بلواه
يشوقني ترف الحشا في لفتة الجيد
لي مر صوبي بالعمالة ثقّل اخطاه
– مقام عجم: هذا المقام عبارة عن تتالي العلامات الموسيقية، ويبدأ من «دو» وينتهي عند «دو»، ومن الأغنيات التي غنيت بهذا المقام، أغنية: أغدا ألقاك لأم كلثوم، والتي يقول مطلعها:
أغدا ألقاك يا خوف فؤادي من غدِ
يالشوقي واحتراقي في انتظار الموعد
آه كم أخشى غدي هذا وأرجوه اقترابا
كنت أستدنيه لكن هبته لما أهابا
كما أن الصوت الكويتي ملك الغرام عنانيه: قد لحن على مقام العجم، وتقول كلماته:
ملك الغرام عنانيه
فاليوم طال عنائية
من لي بقلب أشتري
ـه، من القلوب القاسية
وإليك يا مالك الملا
ح، وقفت أشكو حاليه
مولاي يا قلبي العز
يز، ويا حياتي الغالية
وهناك عدد من الأغنيات لحنت على هذا المقام، منها أغنية جفنه علم الغزل لمحمد عبدالوهاب وأغنية في يوم وليلة لوردة الجزائرية وأغنية أمشي وقلبي حزين لعبدالكريم عبدالقادر.
– مقام بيات: هذا المقام من أكثر المقامات استخداما في الموسيقى الشرقية، وهو المقام الثاني استخداما بعد مقام الرست، وهو يجمع بين الشجن والرقة والحزن والفرح، ويبدأ من «ري» وينتهي عندها، ومن الأغاني التي غنيت بهذا المقام أغنية جانا الهوا جانا لعبدالحليم حافظ، ويقول مطلعها:
جانا الهوى جانا ورمانا الهوى رمانا
ورمش الأسمراني شبكنا بالهوى
يا راميني بسحر عنيك الاثنين
ما تقول لي واخدني ورايح فين
وكذلك أغنية: شكواي للي يفتهم شكواي، التي غناها عبدالمحسن المهنا والتي تقول كلماتها:
شكواي للي يفتهم شكواي
راح الحبيب طول الغيبة
إمنَ أول خِلّي على يمناي
مرتاح بالي ومتهني به
واليوم ما جنه قعد وياي
لاهي، ولا يرسل مكاتيبه
ومن الأغنيات التي لحنت على هذا المقام أيضا أغنية حب ايه لأم كلثوم، وأغنية أنت طيب لنوال التي يقول مطلعها:
خلنا مني طمني عليك
ما أنام الليل من خوفي عليك
إنت طيب؟ هذا هو اللي يهم
إنت طيب؟ غير هذا ما يهم
– مقام سيكا: يعتبر هذا المقام مقام العشاق، وهو من المقامات الموسيقية المشهورة.
لحنت على هذا المقام كثير من الأغاني التي اشتهرت منها أغنية ظلموه لعبدالحليم حافظ التي يقول مطلعها:
ظلموه.. ظلموه.. القلب الخالي ظلموه
وعدوا.. يزوروه.. ونهار ما افتكر يهنوه
نسيوه.. وفاتوه.. وأتاريهم قبل ما ينسوه
ظلموه.. ظلموه..
وموال أغنية سدرة العشاق التي شدا بها شادي الخليج، حيث يقول الموال:
يا سدرة العشاق
يا حلوة الأوراق
بقعد أنا بالفي
أنطر حبيبي شوي
ما عندي غيره شي
ملزوم عليه أشتاق
أما بقية الأغنية فهي من مقام حجاز. وكذلك الأغنية الوطنية التي تقول كلماتها:
كلنا للكويت .. والكويت لنا
كلمة قالها جابر معلنا
صوت حر يقول جعل عمره يطول
كلنا للكويت .. والكويت لنا
بس يغني الزمان يا بلاد الأمان
قال بأحلى لسان
كلنا للكويت .. والكويت لنا
ومن الأغنيات التي لحنت على هذا المقام أيضا أغنية كل ده كان ليه لمحمد عبدالوهاب، وللصبر حدود لأم كلثوم.
– مقام حجاز: مقام حجاز هو من أقدم المقامات الموسيقية العربية، ويمتاز بغزارة الشعور، مملوء بالأسى والحزن، ويستخدم هذا المقام في الكويت عندما تغنى النهمة، وهي لمن لا يعرفها غناء البحر، كما أنه يستخدم في الأذان، ومن الأغاني التي لحنت على هذا المقام أغنية: أنا هويت وانتهيت، وأغنية آخر زيادة لمحمد عبده، وأنا في انتظارك التي غنتها أم كلثوم وهي التي تقول كلماتها:
أنا في انتظارك خليت
ناري في ضلوعي وحطيت
إيدي على خدي وعديت
بالثانية غيابك ولا جيت
– مقام الرست: هذا المقام له وقار وجدية، وهو المقام الرئيسي في الموسيقى الشرقية، ويعتبر من المقامات المفضلة للأذان، وتلحن به معظم الموشحات، ولحنت على هذا المقام أغنية حمام شاقني فنه التي غناها محمد المسباح، التي تقول كلماتها:
حمام شاقني فنه
وأن أطرب كلما غنى
يناغي ظل بستانه
يداعب ريش جنحانه
نسيم المغرب ابزولَهْ
كانه طاير الجنة
ألا يا ما حلى طوله
إليْ من رن بحجوله
يشوق أهل الهوى زوله
يغيرون المها منه
ومن الأغنيات التي لحنت بهذا المقام الحب كله لأم كلثوم وموشح ملا الكاسات وموشح يا شادي الألحان.
على كل حال يقول الباحثون في مجال الموسيقى إن هناك شيئا في أدمغتنا يفهم الموسيقى على مستوى عالمي، وان هناك أشياء نفسية تجعلنا نشعر بأن أنواعا معينة من الأصوات والأنغام مناسبة لظروف اجتماعية وعاطفية خاصة بنا.
لقد اختصر صاحبي الومضة وآخر الكلام وزبدة الحچي لأقول له باسمكم جميعا شكرا على هذه المداخلة الجميلة من الأخ مرزوق يوسف الغنيم والذي أثرى ذاكرتنا بـ «الحداء العربي» الذي أحبه جد الرسول السابع عشر وتسمت باسمه قبائل في اليمن، وقسم العرب الأوائل الحداء الى نوعين (حداء الأوب وحداء الورد).
هذا ما وددت أن أذكره حول الموسيقى، حيث بدأت في الكتابة عن غناء الحداء مرورا بالمقامات الموسيقية، ولعل ذلك يكون طريقا للكلام عن الغناء بشكل عام.
.. في أمان الله.
