بقلم : يوسف عبدالرحمن
كنت في مجلس مصغر جداً لموجبات التباعد والاحترازات كورونا كوفيد-21م وإذ بسؤال يُطرح: مَن الأعمى؟ وقبل أن يجيب أحدنا عن السؤال سرحت مع ذاكرتي فتذكرت عبدالله بن أم مكتوم، أحد السابقين إلى الإسلام وواحد من المهاجرين إلى يثرب، حيث لم تقف إعاقته البصرية حائلاً دون تعلمه القرآن وحفظه.
نعم.. عبدالله بن أم مكتوم الصحابي الذي نزلت فيه (سورة عبس)، والذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي»!
ثم تذكرت العم محمد المطر – أبو عبدالرحمن – والد ابننا النائب حمد المطر، وأيضا العم أكبر أشكناني – أبوعبدالصمد – رحمهما الله، وهما جيراننا في منطقة القادسية، وكيف كانا يعرفاننا من وقع خطاوينا بالأسماء!
أرجع معكم إلى مجلسنا المصغر لأقول: ليس المعنى من فقد بصره أعمى، فكثير من العميان لديهم بصيرة يرون بها، وقد شاهدناهم في الحياة كأنهم «مفتحين»! ولهذا قيل «ليس العمى عمى البصر.. لكنه عمى البصيرة»!
تعالوا معي أيها القراء الكرام إلى حضرة الإمام الفذ أحمد بن حنبل في مجلسه وكيف كان يعالج الأمور ببعد رؤيته وحكمته.
في أحد الأيام، أعجب المصلون بكثرتهم في أحد المساجد، وكان الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، موجوداً، فقالوا له: تخيل يا إمام كم عدد المصلين؟ فقال: لا أحد.. ومن هول المفاجأة لجوابه، قال له أحدهم: هل أنت أعمى؟! وكان ردهم فيه قلة أدب، وقلة احترام! لكنه أجابهم:
٭ الأعمى.. من يغمض عينيه عن أرملة أوجع رأسها حمل ثقيل!
٭ الأعمى.. من توجه للقبلة، وأدار ظهره للأيتام والفقراء!
٭ الأعمى.. من سجد لله، وتكبر على عباده!
٭ الأعمى.. من كان في صف المصلين الأول، لكنه غاب عن صفوف الجياع، وقول الحق!
٭ الأعمى.. من تصدق يوما، وهو قادر على أن يتصدق دوما!
٭ الأعمى.. من صام عن الطعام، ولم يصم عن الحرام!
٭ الأعمى: من طاف البيت الحرام، ونسي أن يطوف حول فقراء يموتون كل يوم من شدة العوز!
٭ الأعمى.. من رفع الأذان، ولم يرفع (قدر) أبويه!
٭ الأعمى.. من صلى وصام، ثم غشّ في بيعه وشرائه (وغش مالاً وأكل سحتاً).
٭ الأعمى.. من قام بين يدي الله، وقلبه يحمل حقداً وكرهاً وبغضاً واحتقاراً لإخوانه المسلمين!
٭ الأعمى.. من كان هناك انفصام بين عبادته وأخلاقه ومعاملاته!
٭ الأعمى.. من صلى وسجد وصام وهو يناصر الظلمة (وأخلاقه سوء يستحل الحرام ويحرم الحلال)!
٭ الأعمى.. من صلى وصام ويداه ملطختان بدماء المسلمين (وغيرهم من البشر)!
٭ الأعمى.. من صلى ولم ينتفع بصلاته (وصيامه وزكاته)!
٭ الأعمى.. من أخذ من الدين بعضه وترك بعضه (مفصلاً على المزاج)!
(فمن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلُّ سبيلا).
ولبلاغة الرد ساد الصمت الجميع. فلا يخلو أحد من نقص أو ذنب أو ما نسميه بالكويتي «اللقافة العمية»!
٭ ومضة: على قارئي الكريم أن يدقق النظر في الحوار الدائر ويعيد قراءة المقالة أكثر من مرة ويصدُق مع نفسه أولا فيما هو عمي فيه!
٭ آخر الكلام: لا نقول هذا من كثرة العميان بيننا، ولا أقصد هنا كفيفي البصر، فكثير منهم مبصر بالبصيرة، وإنما أردد الدعاء: اللهم نور بصائرنا واجعل اللهم ما نعلمه حجة لنا لا علينا!
٭ زبدة الحچي: في دراستنا بالمرحلة المتوسطة، مازلت أذكر أساتذتنا وكيف يمرون على ذكر بعض الشعراء الذين عرفوا بفقدان البصر من فحول العرب الشعراء، أمثال بشار بن برد، وأبو نواس، والتُطيلي الأعمى (وهو شاعر أندلسي واسمه أحمد بن عبدالله بن هريرة القبيسي أبوالعباس الأعمى التطيلي)، وأبوالعلاء المعري وغيرهم كثير.
ومن العلماء الأفذاذ العم الشيخ عبدالعزيز بن باز، رحمه الله، ومفتي السعودية العم الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ أطال الله في عمره.
ومن الشعراء الذين أصيبوا في عينهم ولم يتمكن الأطباء من علاجهم، شاعر الكويت الفذ صقر سالم الشبيب، وقد ارتبطت بأشعاره كثيرا لأنني عُيّنت بعد التخرج معلماً في مدرسة صقر الشبيب، كما أن شاعرنا الكبير فهد العسكر، رحمه الله، ضعف بصره شيئا فشيئا في آخر أيامه!
ونخلص في نهاية هذه الجولة الفكرية الى أن الأعمى الحقيقي من لديه عيون (مبحلقة) ويشوف، لكن ما يشوف لأنه أعمى بصيرة!
ولا يبقى إلا أن أذكّر بهذه الحادثة لأنها في (عين البصيرة)!
عندما انتصر المسلمون على الفرس، حُمِلت كنوز كسرى وجواهره إلى المدينة، فلما رآها الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعظمها! وقال: «إن قوما أدوا هذا لذوو أمانة» فقال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه «عفّ الراعي فعفت الرعية».
إنه زمن الصحابة رضوان الله عليهم ولا يقاس بالأزمنة!
في أمان الله..
